خلال كل يوم نقوم باتخاذ عدد كبير من القرارات. ويتخذ بعضها دون أن نكرّس للقرار ولو ثانية واحدة من التفكير. ففي حالات الطوارئ أو عندما نقف أمام أمر غامض وفي غياب معطيات لاتخاذ القرار، فإن هذه القدرة العقلية العجيبة تنقذنا. وبالمقابل، فإنها تكلف أحيانا ثمنا- انحرافات معرفية، أخطاء منهجية في التصور، الذاكرة أو في التفكير، تؤدي الى اتخاذ قرارات خاطئة.
فكروا في الدماغ البشري كجهاز كمبيوتر: لا يمكن أن تحفظ كل المعطيات التي جمعناها خلال حياتنا، من محفزات، ذاكرة أو استنتاجات، على سطح المكتب. وكما يحدث لجهاز الكمبيوتر، فإن عملية التفكير تتم ببطء وبشكل مشوش. والحل هو موضعة وتصنيف المعلومات في مجلدات، وإنشاء “اختصارات”. وعند الحاجة، بتلميح بسيط، يستخدم الدماغ قواعد الإبهام المسماة “حدس مهني” لاستخراج المعلومات ذات الصلة.
كاهنمان وطبرسكي، الإسرائيليان الفائزان بجائزة نوبل، يدّعيان أن الاستناد الى الحدس المهني هو طريقة جيدة ومنطقية للعمل، بمثابة إدارة مخاطر، حيث تعوّد دماغنا على القيام بذلك من أجل أن يوازن بين الحاجة للوصول الى قرارات سريعة وبين الرغبة في تقليص الأخطاء في العملية. عموما، من المهم القول، إن هذه “الاختصارات” توصل الى قرارات كافية، تلائم الاحتياجات والوقائع، ولكنها قد تؤدي الى أخطاء، في بعض الحالات، ويجب أن نكون على علم بذلك.
الطريقة الجيدة لفهم هذا هي معرفة إحدى طرق الحدس المهنية الشائعة: الأفكار المسبقة، بواسطة تنظيم معلومات تراكمية عن مجموعة أو فئة اجتماعية بقالب تعميمي، يبلور الدماغ انطباعًا أوليًا سريعًا تجاه شخص أو موضوع ويختار كيف يتعامل معه. يدور الحديث عن وسيلة سريعة وفعالة لتحليل أوضاع اجتماعية- ولكن بما أن القالب أعمى ولا يرى تفاصيل ومبني في كثير من الحالات على معلومات جزئية أو غير صحيحة، فمن السهل أن نرى كيف أننا قد نخطئ ونخسر أناسًا ممتازين بسبب الأفكار المسبقة النمطية.
فيما يلي المزيد من التحيزات المعرفية الشائعة:
انحياز الإصغاء الانتقائي، أو انحياز التوافر: تصفية معلومات انتقائية والتركيز على العناصر المتوفرة والظاهرة للعيان على الرغم من أن المعطيات المطلوبة للقرار، موجودة في متناول يدنا. على سبيل المثال، التمركز في إعلان كبير لحملة في سوبر ماركت بدلا من القيام بمقارنة الأسعار.
أثر زيجرايرنيك: الميل إلى تذكر أفضل لمهام حتى لحظة الانتهاء منها. على سبيل المثال، الطلاب الذين يتذكرون المادة التي درسوها للامتحان فقط حتى اللحظة التي قدّموا فيها الامتحان.
الانحياز للربط: يقولون لا توجد فرصة ثانية لترك انطباع أولي، يتبيّن أن ذلك صحيح، المعلومات الأولية التي نتلقاها، تكون بالنسبة لنا بمثابة رابط وتثبّت طريقة تفكيرنا على الموضوع أو الشخص.
انحياز النتيجة: أننا نميل إلى الحكم على أي عملية وفقا للنتيجة التي حصلنا عليها- السطر الأخير. هكذا على سبيل المثال، يميل الآباء (بشكل مفرط) الى تقييم أبنائهم وفقا لنتائج امتحاناتهم، وليس وفقا للجهد الذي يبذلونه في الدراسة وجودة دراستهم.
انحياز المصادقة: نحن نولي أهمية أكبر للنتائج التي تدعم فرضية معينة لنا ونميل إلى تجاهل النتائج التي تعارضها. ويمكننا أن نصادف ذلك في أي نقاش سياسي، عندما يحاول كل طرف تفسير الواقع كداعم ومعزّز لتصوّره.
انحياز التمثيل: الميل إلى تقييم ما يعرض بكلمات ولهجة إيجابية أكثر مما يعرض بكلمات ذات طابع سلبي. على سبيل المثال، ينحاز الناس للإجابة بشكل مختلف عن السؤال “هل توافق على إدخال دواء تجريبي للاستعمال، على الرغم من أنه في نهاية المطاف لن يمنع وفاة 40% من المرضى؟” أو “هل توافق على استعمال دواء تجريبي يمكنه أن ينقذ حياة 60% من المرضى؟”.
انحياز العلاقة السببية: نميل إلى نسب علاقة سببية لأشياء تحدث في أوقات متقاربة. نحن نميل عادة إلى فهم العلاقة السببية للأشياء من خلال المحور الزمني. إذا حدث شيء ما قبل شيء فإنه على ما يبدو المسبب له. في بعض الأحيان هذا صحيح وأحيانا غير صحيح، ولكن في كثير من الحالات فإن ذلك يشجعنا ويساعدنا على فهم العالم من حولنا.
التنافر المعرفي: العقل البشري يحب المتابعة والاستمرارية جدًا وينفر من الصراعات وانقطاع الاستمرارية. وفي حالة التناقض بين ما نعرف، أو ما نؤمن به وبين الواقع الفعلي، يميل الدماغ إلى المحافظة على الاستمرارية الداخلية على حساب الواقع الخارجي؛ تجاهل حقائق معينة، التركيز على حقائق هامشية وعمل المستحيل من أجل مواصلة التمسك برأيه. إليكم مثالين عن تأثير الحاجة للاستمرارية المعرفية:
نبوءة تحقق ذاتها: عندما تؤدي توقعاتنا الى تغيير. لا يوجد هنا شيء سحري، فهذا يحدث لأننا نبذل جهودًا ونعمل من أجل تحقيق تلك التوقعات. إذا قالوا للمعلمة أن طلابًا معينين (تم اختيارهم بشكل عشوائي) هم أفضل وأكثر ذكاء من الآخرين، فإن هؤلاء الطلاب فعلا سيحصلون على علامات أفضل. ستبذل المعلمة جهدًا لكي تجعل نتائج الطالب أقرب الى ما تتصوّره هي، من أجل الحفاظ على استمرارية التفكير. وهذا ما يسمى تأثير بجماليون.
تأثير الهالة: عندما تحدّد ميزة أو سمة وحيدة تصورنا العام للإنسان. فإننا نميل إلى اتخاذ صفات إيجابية من نوع معين ونستنتج منها صفات إيجابية أخرى، وبالتالي خلق استمرارية إدراكية موحّدة مثلا، معطف الطبيب يؤدي الى استنتاج سلسلة صفات بأنه ذكي وطيب القلب ويتمتع بالإيثار.
إذن ها هي “آليات الأخطاء” لدينا: التفسير لكل المرات التي لم نتخذ فيها قرارًا بشكل صحيح. هل التحيزات المعرفية مفيدة لنا؟ نعم، لأنها موفرة من حيث الوقت والموارد. هل يمكن الاعتماد عليها؟ كلا، بالفعل كلا. في الكثير من الأحيان تعمل المركبات غير الواعية لدينا وهنا يمكن أن نرتكب الأخطاء. هل يمكن تجنبها؟ لا، لا يمكن. هي بكل بساطة هناك، تظهر من تلقاء نفسها، أحيانا بمعرفتنا وأحيانا تأتي خفية. يمكننا أن ندركها بشكل أكبر، وفي بعض الأحيان يمكننا حتى استغلالها لصالحنا؛ ولكن بالأساس، يجب أن نعترف بوجودها ونفهم أن الأمر هو كذلك. في بعض الأحيان نتخذ قرارًا صحيحًا وأحيانا نخطئ. نحن بشر، تعرفون ذلك.