في العقود الأخيرة، تطور في العالم الغربي اتجاهان: زيادة في وفرة وتوافر الغذاء – وتحول كبير في مفهوم صورة الجسم، الذي ينعكس في الطموح العالمي لمبنى جسم نحيف- وخاصة بين المراهقين والشباب. تناقض. ولهذا التناقض هنالك أبعاد يمكن أن تكون مأساوية في بعض الأحيان.
التوتر بين الاتجاه العام لزيادة الوزن وبين الطموح للنحافة، أدى الى مرض خاص يسمى “اضطرابات الأكل”. وهذا المصطلح يشمل مشاكل مثل فقدان الشهية “انوريكسيا”، “بوليميا” الشره المرضي، اضطراب في الأكل على شكل نوبات واضطرابات الأكل بأشكال أخرى، في حين أن الانتقال من مشكلة إلى أخرى ليس نادرا على الإطلاق: بعض مرضى الـ”انوريكسيا” يتحولون الى مرضى “بوليميا”، وجزء من الأخيرين يتوقفون عن التقيؤ ولكن يستمرون في المعاناة من الأكل بشراهة ويتحولون الى مرضى يعانون من نوبات اضطراب في الأكل.
في سياق المقالة سأتطرق إلى المرضى بلغة المؤنث، وذلك لسبب بسيط وهو أن معظم الذين يعانون من اضطرابات الأكل هم من الفتيات والنساء الشابات.
نوبات الأكل
عادة ما تظهر اضطراب نوبات الأكل في أواخر سن المراهقة أو في أوائل العشرينات، على الرغم من أنه يمكننا اليوم أن نرى مراهقات شابات أكثر أو حتى فتيات صغار تتراوح أعمارهم بين 12-10 مصابات بالاضطرابات. انتشار نوبات اضطرابات الأكل بين السكان هي 4 – 0.7 في المائة، ونسبة الفتيات المصابات بها أعلى بواحد ونصف من نسبة الأولاد المصابين بها. وينعكس هذا الاضطراب في الأكل بنوبات متكررة من الشراهة عند تناول الطعام، بمعدل يومين أسبوعيا، ولمدة ستة أشهر على الأقل.
ويعرف الأكل بشراهة كتناول كمية كبيرة من الطعام في فترة زمنية محددة حتى ساعتين. تتميز الشراهة بوتيرة تناول الطعام أسرع من المعتاد، والآكل يشعر بعدم الراحة الفسيولوجية بسبب الكميات التي استهلكها. وتترافق الشراهة بشعور من عدم التحكم، الذي ينعكس بعدم القدرة على التوقف عن الأكل أو التحكم بالكمية وطريقة الأكل.
لا تكون الشراهة بسبب الجوع الفيزيولوجي، ولكن لأسباب أخرى، بحيث أن من تعاني من الاضطراب لا تعي. وعملية الأكل نفسها ترافقها مشاعر الاشمئزاز، الاكتئاب، أو الشعور بالذنب، لذلك فهي تتم عادة في السر. بعد الشراهة، تثار لدى الشابة مخاوف بالنسبة لتأثيرات الأكل غير المنضبط على حجم الجسم. ومع ذلك، لا تكون بعد الأكل بشراهة عادة سلوكيات تعويضية مثل التقيؤ، الصوم أو ممارسة الرياضة بقلق شديد – وإذا ما ظهرت هذه السلوكيات، فسوف تكون وتيرتها منخفضة.
بعض اللواتي يعانين من هذا الاضطراب يتحدثن عن مسببات محفزة للشراهة، كالاكتئاب أو القلق. فيما لا تشير أخريات الى مقدمات معينة، لكنهن يتحدثن عن شعور غير موضعي من التوتر الذي يسبق الشراهة. وهناك من يصفن ذلك كتجربة فاصلة، يشعرن خلالها بنوع من عدم التركيز.
قصة ايلانا
كانت إيلانا تبلغ 15 سنة ونصف من عمرها فقط عندما تم تحويلها لعيادة اضطرابات الأكل من قبل طبيبة العائلة. اعتادت أن ترتدي ملابس استفزازية، ملونة وغير محتشمة، وبشكل يتناقض للغاية مع ذلك، كانت تتحدث بصوت خافت، ويبقى وجهها أثناء الحديث متجمدا وبدون تعابير. قالت لي إيلانا إنها تعاني من السمنة الزائدة ووصلت الى وزن 90 كغم. ولجأت إلى أخصائية تغذية، فنجحت بواسطتها في تنقيص 40 كغم من وزنها خلال بضعة أشهر. وعندما وصلت إلى الوزن المطلوب، أخذت تعاني من شراهة أكل قاسية. ولأنها كانت تخشى أن يزيد وزنها ثانية، قامت بتنظيم شراهة الأكل عن طريق التقيؤ والصوم لمدة تصل إلى عدة أيام. وبالإضافة إلى الأعراض المتعلقة بالشراهة، عانت من أعراض الاكتئاب.
كانت إيلانا تخجل بمرضها وأخفته من والديها ومن أخصائية التغذية. وتبين خلال محادثة معها أن أمها هي التي دفعتها للتوجه الى أخصائية التغذية، في حين أن الوزن لم يزعجها بتاتا. كان والدا إيلانا يعانيان من مشكلة الأكل والوزن الزائد: والدها قلل من وزنه وحافظ بحرص شديد على قائمة حمية محدودة، فيما عانت الأم من نوبات أكل. واعتادت الأم على تأنيب ابنتها كلما لاحظت أنها تأكل أكثر من اللازم (ربما كانت تفضل الانشغال بطريقة ابنتها في الأكل أكثر من مواجهتها لمشكلة الأكل لديها).
إيلانا هي الابنة البكر. وصفها والداها بأنها كطفلة وكفتاة لم تكن بسيطة. كانت تلح بطلباتها، وسريعة الشعور بالإحباط. وقالا إن إيلانا كانت تجد صعوبة في التكيف مع الأوضاع الاجتماعية وغالبا ما كانت تحتاج إلى مساعدتهما. وأضافت الأم أن ابنتها لا تتدبر أمورها في إطار وسلطة، ووصفتها بأنها كحفرة بلا قاع: مهما تملأ وتعطي فإنها سوف تستمر في الشعور بالإجحاف بحقها وبأنها غير محبوبة. وكان الانطباع بأنه كان من الصعب على الأم استيعاب ابنتها وبأنها تخجل بها. أما الأب، الذي كان يمكن أن يلعب دورا هاما في العلاقة المعقدة بين إيلانا ووالدتها، كان بمثابة الحاضر/ الغائب داخل البيت. لقد عمل على تطوير حياته الأكاديمية واستثمر فيها كل طاقته. ووجد صعوبة في التعامل مع القوة العاطفية للنساء في بيته، ولذلك اختار الانفصال والاغتراب. سعت إيلانا على مر السنين للتقرب إليه، ولكن دون جدوى. وحسب شعورها، بقي غير مبال بجهودها.
الأكل والصعوبات العاطفية
بالنسبة لإيلانا، شكل الأكل مصدرا للتعزية والتهدئة- المكان الذي شعرت فيه أنها ممتلئة. بحثت عن هذه المشاعر عند والديها، لكنها لم تجد هناك إلا الانتقادات والتجاهل. والأكل ملأ بالنسبة لها المكان الخالي في النفس.
عندما بدأت إيلانا بعملية تخفيض الوزن أخذ الأكل منها كمصدر للعزاء، وبالمقابل لم يحدث تغيير حقيقي في الجهاز النفسي لديها، وكذلك في حركتها العائلية. وهذا هو السبب في أنها بدأت تعاني من الشره المرضي ومن الاكتئاب.
لقد توقعت إيلانا أن تتحسن صورتها الذاتية والثقة بالنفس بعد فقدان الوزن، وأن تقوم بتوسيع دائرة الأصدقاء وتكون قادرة على خلق علاقات رومانسية. وكانت تأمل بأن تتغير العلاقة مع والديها، وخصوصا مع والدتها، للأفضل. وفعليا، بعد أن نقصت من وزنها لم يتغير شيء سوى وزنها. وعندما شعرت بأنها لم تنجح في اختراق دائرة الانعزال، انتقلت من الإفراط في تناول الطعام الى الشراهة والتقيؤ.
تتلقى إيلانا اليوم علاجا مدمجا: نفسي وعائلي وغذائي. عدد حالات الشعور بالشراهة والتقيؤ انخفض وهي تحافظ على وزن ثابت، لكنها لا تزال تعاني أحيانا من خوف زيادة الوزن والشعور بالذنب تجاه أكلها. التوقعات المستقبلية بخصوصها تبدو جيدة، ويبدو أنها في الطريق لإعادة التأهيل، ولكن ما زال هناك مثلها العديد من الفتيات والنساء، اللواتي يحاولن تخفيض الوزن من خلال التخيل بأنهن ليس فقط سينجحن في إزالة كيلوغرامات، بل أيضا جميع المشاكل التي رافقتهن في حياتهن. وهذا الخيال قد يدفع بعضهن لاضطرابات أكل ولمعاناة لا توصف.
الشيء الأهم الذي يمكن أن نتعلمه من قصة ايلانا هو: أنه ينبغي اتخاذ مزيد من الحذر عند بدء الحمية وفحص الدوافع التي ترافق الرغبة في إنقاص الوزن بدقة، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالمراهقين والشبيبة. وبالإضافة الى ذلك، يجب فحص عوامل الخطر الأخرى أيضا، مثل تدني النظرة للذات، الصعوبات الاجتماعية والميل إلى الكمال. وفي أية حالة شك، يمكن التوجه لعيادة اضطرابات الأكل في منطقة سكناكم لغرض الاستشارة، التشخيص والعلاج، إذا اقتضت الحاجة.