تنوّع الأجهزة التي من خلالها نستهلك الميديا آخذ بالازدياد مع مرور السنين. فقد انضمت للتلفزيون الذي يرافقنا منذ سنوات عديدة في البيت، الهواتف الذكية، أجهزة التابلت، أجهزة الكمبيوتر المحمولة وشبكة الإنترنت اللاسلكية وبأسعار في متناول الجميع. ويضاف يوميًا المزيد من مواقع الإنترنت، التطبيقات والشبكات الاجتماعية الجديدة التي تجذبنا الى الشاشات. وقت الشاشة لدينا أصبح أطول، هناك من يقول إنه يصل إلى ما عدّله 8 ساعات يوميا، ومعه التعرض لمحفزات قوية وسريعة وتغييرات في أسلوب الحياة والعادات اليومية التي تؤثر على صحتنا. والى جانب المزايا العديدة التي توجد في سهولة الوصول للميديا وتوافرها وقدرتها على احتواء ونقل كميات كبيرة من المعلومات بسرعة مذهلة، فمن المفيد التعرف أيضا على جوانب أخرى لهذه الظاهرة.
الشاشات ومزاجنا
نتائج الأبحاث تربط بين وقت الشاشة الطويل المستهلك منذ الطفولة، يوما بعد يوم، وبين المس التدريجي بالقدرة على تنظيم النظام الهرموني المبني على أساس آليات استرجاع (Feedback) والسيطرة. ويوجد لهذا الجهاز دور مهم جدا في تنظيم النوم، أداء الجهاز المناعي والتعامل مع الإجهاد، حيث إن التأثير المباشر للمحفزات المكثفة على وقت ونوعية النوم لدينا ومستوى إجهاد معطى (مثلا مشاهدة مسلسل مثير للتوتر/ رعب أو قراءة بوست مثير للغضب بشكل خاص) لا ينتهي عندما ننهي المشاهدة، بل يترك بصماته على تنظيم النظام وأدائه على مدى كل ساعات النهار.
الشاشات ودماغنا
وما هو تأثير عالم الديجتال على دماغنا؟ يبدو أن وتيرة ظهور معلومات جديدة يؤدي إلى تحرير متزايد وسريع لناقل عصبي يدعى دوبامين، المسؤول عن شعور الإثارة والاستجابة للمؤثرات الجديدة والقدرة على التركيز. وبالإضافة إلى ذلك، يعتبر الدوبامين كمؤثر على شعور المكافأة الإيجابية (reward system) الذي يؤدي بدوره الى إطالة زمن المشاهدة أمام الشاشة، التعلق باستخدام الميديا الى حدّ الإدمان الحقيقي على الشاشة، وبما يشبه استعمال مواد مدمنة أخرى يؤدي إلى آلام الفطام عندما تؤخذ الشاشة منا.
وتيرة المحفزات المتغيرة سريعًا لا تتطلب مدى تركيز كبير وبالتالي، فإن الوقت الطويل أمام هذه المحفزات قد يؤدي إلى تفاقم أعراض اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD) إذا كان موجودًا. وبالمقابل، العديد من السلوكيات التي نربطها باضطراب نقص الانتباه مثل التهوّر والعصبية قد تكون ذات صلة بالانكشاف على مضامين ميديا عنيفة أو مكثفة. وتظهر معطيات شركة مايكروسوفت من عام 2015 أنه منذ عام 2000 حتى عام 2013 طرأ انخفاض على مدى التركيز لدى البالغين، دون اضطراب نقص الانتباه، من 12 ثانية إلى ثمان ثوان (للسمك الذهبي، وفقا لما نشر، توجد قدرة تركيز لمدة 9 ثوان)، وأن استخدام الميديا الديجتالية خاصة مرات عديدة بعدد من الشاشات في وقت واحد، استخدام الميديا الاجتماعية، ومدى استخدام التكنولوجيا بشكل عام، يضعف التركيز، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالقدرة على التركيز بمحفز واحد لفترة طويلة وبالقدرة على أن تكون انتقائيا تجاه محفزات مختلفة.
هنالك العديد من الدراسات تميل الى هذا الرأي أو ذاك حول هل العيش في العالم الديجتالي حقا يطور مهارات متعددة المهام، وقدرة أفضل على تصفية المحفزات بشكل انتقائي، أو أن فيضان المحفزات يتركنا في حالة ذهول وفي أحسن الأحوال أقل فعالية فقط. نيكولاس كار الذي ألف كتاب: The shallow: What the Internet Is Doing to Our Brain? يدعي أن الإنترنت جعلنا سريعي الاستيعاب، نعرف كل شيء وذوي قدرة سريعة على اتخاذ القرارات. ومع ذلك، يسأل كار هل القرار الذي اتخذ في النهاية هو لك، أم أنه تحدد حسب ترتيب ظهور نتائج البحث في غوغل الذي قمت به؟ هل فقدنا القدرة على القراءة العميقة حقا؟ يشير البحث الذي أجري في المكتبة الوطنية البريطانية بين السنوات 2003-2008 إلى أن هذا هو الاتجاه. معظم الطلاب اليوم لا يقومون بقراءة المقالات بل يقومون بـ”مسحها” في غضون بضع دقائق بشكل ضحل وبما يفي بالغرض. ويقول كار إن هذه العادات تغير الأسلاك في الدماغ عن طريق تقوية مسارات معينة وهذا يتطلب دفع أثمان وخسائر معرفية.
ولكن مهلاً
انتظروا لحظة أخرى قبل أن تحزموا الحقائب وتنتقلوا إلى جزيرة معزولة. هناك ما يمكن القيام به من أجل الاستفادة من إيجابيات الميديا والتقليل من تأثيرها غير الصحي على حياتنا.
كونوا متنبّهين لوقت استخدامكم واستخدام أبنائكم للميديا وللمضامين التي تستهلكونها عبرها، فمن المهم إيجاد الجرعة والتوازن المناسبين. مرات كثيرة يوجه الأهل ملاحظات لأبنائهم حول الوقت الذي يقضونه أمام الشاشة، ولكنهم غير متنبهين للوقت الذي يقضونه هم أنفسهم أمام شاشة التلفزيون أو الهاتف الذكي. ينصح بالمبادرة الى تحديد وقت تكون فيه كل الميديا مغلقة في البيت. قوموا بقضاء بعض الوقت في التأمل الهادئ، وقراءة المزيد من الكتب، احرصوا على تناول وجبات طعام مشتركة ومحادثات وجها لوجه. وللذين يقضون وقتا طويلا أمام الشاشة احرصوا على دمج النشاط البدني في الروتين اليومي لديكم. قوموا بإخراج الشاشات من غرف النوم، وعندما تكونون مع الأصدقاء والعائلة كونوا معهم بدلا من أن تكونوا مع مجموعة “الواتس اب”، في الوقت الذي تخشون فيه أن تخسروا الاطلاع على “بوست” وآخر، فإنكم قد تخسرون أشياء- الأشياء المهمة حقا.